أجيال غادرتنا وأخرى تصارع للبقاء - بوابة فكرة وي

0 تعليق ارسل طباعة

belbalady.net قديما قال الفرزدق ردا على نقد الحضرمي لأحد أبياته، "على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا"، هكذا ينتهج البعض نهج احتلال النقد مرتبة تالية للإبداع، لا أن يصبح مرشدا ودالا وهاديا، حتى صار النقد يعدو في طريق لا نهاية له، لاهثا خلف المدارس الأدبية والشعرية المستحدثة، محاولا هضمها وتعبيد طرق جديدة لها بين نظرياته ومناهجه.
والواقع أن الإبداع إذا افتقر إلى نقد جيد صار مرتبكا، مكررا لأخطائه التي لا يقومها أحد، ولا يهتم لها مهتم، فالناقد الجيد مرشد في الطريق الشاق، هكذا يطرح المبدع إبداعه مثلما عنّ له، ليحين دور الناقد، الذي يعيد الترتيب والكشف والاستنتاج والإشارة بطريقة جديدة مذهلة، فنجد أنفسنا أمام إبداع مواز للنص وكاشف لأبعاده.

*أجيال النقد بين الرحيل والبقاء
في الآونة الأخيرة رحلت أسماء نقدية كانت تملأ الفضاء النقدي علما وشهرة وصيتا، فمنذ أقل من سنتين رحل الدكتور صلاح فضل، والدكتور جابر عصفور، ومنذ شهور غادرتنا الدكتورة سيزا قاسم، تلتها الدكتورة سمية رمضان، ليتسلل إلينا شعور مرتجف بأن النقد الأدبي بمصر ووطننا العربي قد يكون في خطر، خاصة مع ما نشهده على الساحة النقدية الفعلية من ممارسات نقدية مرفوضة.
منذ وقت ليس ببعيد، كان النقد الأدبي حاضرا بقوة بين أكاديميين وأساتذة أجلاء كبار، لم يكونوا كثيرين في الأجيال لكنهم تركوا في كل جيل بصمة مميزة لا تمَّحى آثارها النافعة، ولم تقتصر أدوارهم على نقد النص فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى رعاية المواهب وصقلها، وتحليل النصوص الأدبية، ووضع النتائج في صورة نظريات يهتدي بها اللاحقون.

لكن من أسفٍ أن برحيل تلك الأجيال والتي تمثلت في جيل الرواد وما بعده، تحول النقد الآن إلى ما يشبه المجاملات، حتى صار الناقد، إلا من رحم ربي، يكتب عن نصوص المقربين المرضي عنهم لا من يستحقون، بل تحول النقد إلى مجرد انطباع سريع مقولب، ينفع لكل نص وزمان ومكان، حتى ما قيل في نص يمكن "تقييفه" ليقال في آخر، هكذا فعلت آفة النقد السريع في الندوات والصالونات الأدبية والمقالات، بل نرى أن أقبح الآثار التي ترتبت على غياب النقد الحق،  كان غياب المعيار.. أي افتقاد النموذج المتصوَّر الذي ينبغي أن يكون عليه النص المكتوب، حتى ضجت ساحة الإبداع بالطاقات الزائفة الخادعة والمقلدين واللصوص ومستوردي الأفكار والضعاف في اللغة والباحثين عن القوالب الأسهل وما شابه، ولا غرو أن بعض هؤلاء نال مجدا طويلا؛ ومازال.

ويمكننا كي نجيب عن تساؤل حائر يدور حول مصير النقد بين أيدي الجيل الحالي، أن نستعرض في عجالة بعض أجيال النقد السابقة:

*جيل الرواد 
من هؤلاء طه حسين، محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، كان نقدهم يقوم على تذوق الأدب ثم على الأحكام العامة شأنهم شأن كبار قدامى النقاد، ابتداء بأول ناقد منهجي، وهو محمد بن سلام الجمحي، في كتابه "طبقات فحول الشعراء"، مرورا بالجاحظ، قدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني، باستثناء الحسن بن بشر الآمدي، في كتابه "الموازنة بين الطائيين"، إذ كان ذا عقل تحليلي، فقد بنى كتابه على تحليل بعض الموضوعات في شعر الطائيين، وأخيرا عبدالقاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز". 
ولم يغب النقد عن اهتمام الفريق الآخر الذي انشغل بالعلم عامة أو العلوم الإنسانية في مجملها، وهذا ما يمكننا أن نلحظ شيئا من تجلياته لدى أعلام الجيل التالي، فهؤلاء هم أهم المشتغلين بالفلسفة، وهم: زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا(ومن قبلهم منصور فهمي)، ولكل منهم مساهمته في نقد الأدب أو نقد الموسيقى أو نقد الشعر.

* تلاميذ جيل الرواد
نستطيع أن ننظر إلى نقاد الجيل التالي الكبار، بدءا من محمد مندور وسهير القلماوي وشوقي ضيف وأحمد كمال زكي، إلى شكري عياد ولويس عوض، وشوقي عبدالحميد، رجاء النقاش، عبدالقادر القط، سيزا قاسم، وغيرهم، هؤلاء حافظوا بدرجات متفاوتة على دور الناقد ورسالة النقد، ولم يحبسوا أنفسهم في قفص التخصص الضيق. بل لقد انفتح بعضهم علي تيارات ما بعد الحداثة.

*محمد مندور مؤصلا
الناقد محمد مندور، والملقب بشيخ النقاد، كان رمزا لجيل التأصيل في النقد، حيث جاء جيل مندور ليرسخ الأفكار التي وضعها جيل النقاد الرواد من قبله، فقد جمع مندور بين دراسة الأدب والقانون والسياسة والاجتماع، وكانت فكرة السنوات التسع التي قضاها في فرنسا ذات تأثير بالغ في فكره، فقد قال إن هذه السنوات هي التي كونت شخصيته، وكانت قضية التجديد إحدى القضايا المهمة التي تؤرقه دائما، ليجد أن الصحافة هي المجال الرحب الذي سيتيح الميدان لكتاباته لينخرط بها في ميادين وساحات السياسة.


*عبدالقادر القط منتصرا للأفضل

ما زال الثمانينيون يذكرون الناقد الدكتور عبد القادر القط بكل خير (يرحمه الله) لا سيما في تجربته بمجلة إبداع، فلم يأل جهدا في الانتصار لتفوق قصيدة فتى عظيم الموهبة من مركز ناءٍ بالصعيد أو قصة شاب بديع من قرية مجهولة بالدلتا.


* الجيل الحالي:
ترى هل حافظ جيل النقاد الحالي على استكمال مسيرة أساتذتهم من جيل الرواد وما بعده، وهل أضافوا لتلك المسيرة؟ 
كان للناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب تعليق سابق في تلك القضية، مفاده أن الجيل الجديد من النقاد لم يكمل المسيرة السابقة عليه وارتد إلى مرحلة(نقل الثقافة النقدية)، وهو ما وصفه عبدالمطلب ب(الفوضى)، ويقصد بها تعدد المسارات النقدية تعددا عشوائيا، أوجزها في خمسة مسارات:
الأول:( النقد الآلي) الذي يتحول فيه الناقد إلي( جهاز تسجيل) يردد مجموعة من المصطلحات النقدية المترجمة, ثم يفرضها على النص، فيتحول إلي كائن مشوه.
الثاني:( النقد الحرفي) ويعني أن النقد عند البعض نوع من الحرفة شبيهه بحرفة(السباكة) الناقد يمتلك مجموعة أدوات قدمها له( علم السرد) فهو يطبقها على كل النصوص، لا فرق بين نص وآخر. الثالث:( النقد المائي)، وهو نقد شبيه بالماء، بلا لون أو طعم أو رائحة، ومن السهل نقله من نص إلى آخر، ومن مبدع إلى آخر دون عناء. الرابع:( النقد الهوائي)، وهو النقد الذي ينتهي أثره بانتهاء قراءته أو سماعه، وما أكثره.
الخامس:( النقد البهلواني) وهو نقد له رواده ومريدوه إذ يتقدم الناقد إلى النص، ويستخرج منه الأعاجيب، فهو أشبه بالحاوي الذي يخدع العين فيسكب الماء من الكوب الفارغة ويخرج البيضة من أذن المشاهد.


ختاما ورغم كل ما سبق لا ننفي أنه يوجد في وقتنا الراهن نقاد كبار أكاديميين وغيرهم، يمكن التعويل عليهم، واسعو الثقافة، هاضمون للتراث العربي والآداب الغربية، ولديهم أفكار من شأنها تصحيح الأخطاء، ويوجد طلبة في السنوات النهائية بكليات اللغة العربية متفوقون ومتحمسون للنقد أيضا، وقد يكون مستقبلهم النقدي مشرقا، لكن الجميع يفتقدون للحافز، ويشعرون بالحاجة إلى التوعية بأهميتهم، لكن أعدادهم قليلة، ويكتبون يختفون تحت وطأة التيار الجارف الأكثر اتساعا، لينتهي بنا الأمر بالاعتراف أن النقد في خطر شديد، والمسؤولية في رقاب الجميع مبدعين ونقادا ومثقفين ومتابعين ومهتمين ومؤسسات عامة وخاصة؛ فإما استفاقة قريبة وإما ضاع النقد ومعه الإبداع.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق